فصل: الشورى في تفريق الأحزاب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الشورى في الشريعة الإسلامية دراسة مقارنة بالديمقراطية والنظم القانونية



.الشورى في تفريق الأحزاب:

بعد أن اشتدت الأمور على المسلمين في غزوة الأحزاب واستشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض أصحابه في تخذيل المسلمين وتفكيك جموع الأحزاب المهاجمين للمدينة فبعث إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف المري وهما قائدا غطفان وساومهما على أن يأخذا ثلث ثمار المدينة ويرجعا بمن معهما، ولكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما كان ليبرم الأمر في أمر لم ينزل فيه وحي حتى يستشير فيه فأرسل إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وهما سيدا الأوس والخزرج فقالا: يا رسول الله أمر تحبه فنصنعه أم شيء أمرك الله به لا بد لنا من العمل به أم شيء تصنعه لنا فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «بل شيء أصنعه لكم والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة كالبوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم إلى أمر ما». فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنا وهؤلاء على الشرك بالله وعبادة الأصنام لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منا تمرة واحدة إلا قِراً أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وعزنا بك نعطيهم أموالاً ما لنا بهذا من حاجة والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «فأنت وذاك»، فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب. ويظهر هنا أن الشورى زادت المؤمنين صلابة وقوة وأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يحمل أصحابه على رأيه بل نزل صلوات الله وسلامه عليه إلى رأي الصحابيين الجليلين سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، وفي ذلك عظة وعبرة لقادة المسلمين في كل زمان ومكان، ويستفاد من قصة غزوة الأحزاب وثبات المسلمين فيها وإنزال النصر عليهم وإرسال الله جنوداً لم يروها وجَعْلِ كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا الأمور التالية:
1- أن المسلمين اعتصموا بحبل الله جميعاً.
2- أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم ينفرد برأيه دون مشاورة أصحابه فقد استشارهم في مكان القتال فاتفقوا على البقاء في المدينة والدفاع عنها أمام جموع الكفر وأحزابه من عرب ويهود.
3- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أخذ هو وأصحابه بما أشار به سلمان الفارسي رضي الله عنه وحفر الخندق في الجهة الشمالية للمدينة كونها جهة مفتوحة وقد فطن سلمان إلى أمر عسكري فأشار به على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخذ الرسول به، وقسم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الخندق بين أصحابه لكل عشرة منهم أربعون ذراعاً حيث بلغ طول الخندق حوالي خمسة آلاف ذراع وعمقه سبعة أذرع إلى عشرة والعرض من تسعة إلى ما فوقها وقد كان حفره من شمال المدينة الشرقي إلى غربها، وكان حده الشرقي طرف حرة واقم، وحده الغربي غربي وادي بطحان حيث طرف الحرة الغربية.
4- يستفاد من القصة أيضاً ضرورة الأخذ بآراء أهل الاختصاص من أهل الخبرة فقد أخذ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم برأي أهل الخبرة العسكرية الدفاعية والهجومية لغير المسلمين التي أخبره بها سلمان الفارسي وذلك مما ينبغي أن يستفيد منه القادة فليس الأمر مقصوراً على تلك الواقعة فلكل زمن واقعه وآليته التي يجب أن تراعى.
5- الاستشارة في الأسباب التي من شأنها أن تمزق جبهة العدو وتحدث تصدعاً فيها فهو أمر مستحسن عند الضرورة والقتال، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن «الحرب خدعة».
6- يستفاد من قصة وسؤال السعدين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن موضوع الشورى إنما هو أمر اجتهادي (أمر تحبه فنصنعه أم شيء أمرك الله به لا بد لنا من العمل به أم شيء تصنعه لنا)، ويستفاد من ذلك أن السعدين قد فهما من هديه صلى الله عليه وآله وسلم أن موضوع الشورى إنما يكون في أمر اجتهادي وإلا لما سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فالأمور الاجتهادية احتمال الخطأ فيها وارد، وأن الشورى لا تقع فيما فيه نص، أي أنه لا بد أن يقع محل الشورى خارج إطار النص الشرعي وليس مضاداً له ولا معاكساً، فإنه لو كان أمراً من عند الله لما كان هناك من موجب للتشاور، لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}.
7- أن مخالفة ولي الأمر في الأمور الاجتهادية عند الاستشارة في الرأي لا ضير منه، لأن المستشار يجب أن يقول رأيه بكل أمانة وصدق، فالمستشار مؤتمن وقد أشار السعدان بما رأيا فيه مصلحة فأخذ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم به.
8- أن تنازل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن رأيه وأخذه برأي السعدين ومحو الصحيفة يدل دلالة واضحة أن الشورى في الأمور الاجتهادية ملزمة وليست معلمة.
9- أن محو ما في الصحيفة من قبل سعد بن معاذ رضي الله عنه وإقراره صلوات الله وسلامه عليه على ذلك يدل على أن رئيس الدولة أو الخليفة أو الملك ليس له أن ينفرد برأيه ويصدر قرارات في أمور تتعلق بمصير الأمة وأموالها ومستقبلها دون مشاورة، وقد قال الشيخ محمود شلتوت رحمه الله: وهذه الحادثة تضع تقليداً دستورياً هاماً، وهو أن الحاكم ولو كان رسولاً معصوماً يجب عليه أن لا يستبد بأمر المسلمين وأن لا يقطع دون رأيهم في شيء هام وأن لا يعقد معاهدة تلزم المسلمين بأي التزام دون مشاورتهم وأخذ آرائهم فإن فعل كان للأمة حق إلغاء كل ما استبد به من دونهم وتمزيق كل معاهدة لم يكن لهم فيها رأي. قلت والحكمة في ذلك أن المعاهدات ربما اشتملت على أمر فيه ضرر يلحق بالأفراد فكان لا بد لإبرامها من موافقة نواب الشعب وأهل الشورى والاختصاص، ولا مشاحة في أن المصادقة على الاتفاقات والمعاهدات وعقد الاتفاقيات مناط بولي الأمر كما هو الحال في السيرة النبوية غير أن تفرد ولي الأمر دون مشاورة في ذلك هو محط الإشكال.
وفي النظم الحديثة لا تكاد الدساتير تختلف على أداء هذه الصلاحية ولي الأمر (رئيس الدولة أو الملك) وقد صرح دستور الجمهورية اليمنية بالمادة (119) فقرة 12 (بأن لرئيس الجمهورية إصدار قرار المصادقة على المعاهدات والاتفاقيات التي يوافق عليها مجلس النواب) وأفصحت الفقرة (13) من ذات المادة سالفة البيان بأن من مهام رئيس الدولة المصادقة على الاتفاقيات التي لا تحتاج إلى تصديق مجلس النواب بعد موافقة مجلس الوزراء.
وقد أنشئ في الجمهورية اليمنية مجلس للشورى نص الدستور اليمني بأنه يجب أن ينشأ بقرار من رئيس الجمهورية مجلس شورى من ذوي الخبرات والكفاءات وذوي الرأي والشخصيات الاجتماعية لتوسيع قاعدة المشاركة في الرأي وقد أسند إليه الدستور بمقتضى المادة (125) تقديم الدراسات والمقترحات التي تساعد الدولة على رسم إستراتيجيتها التنموية وإبداء الرأي والمشورة في المواضيع الأساسية التي يرى رئيس الجمهورية عرضها على المجلس وتقديم الرأي والمشورة بما يسهم في رسم الإستراتيجية الوطنية والقومية للدولة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والأمنية لتحقيق أهدافها على المستويين الوطني والقومي كما هو صريح الفقرة (ج) من المادة (25) من الدستور اليمني، وهذا يعني أنه لا بد من التشاور في الأمور العسكرية والأمنية، كما أناط الدستور به أيضاً إبداء الرأي والمشورة في السياسات والخطط والبرامج المتعلقة بالإصلاح الإداري لتحديث أجهزة الدولة وتحسين الأداء، والاشتراك مع مجلس النواب لتزكية المرشحين لمنصب رئيس الجمهورية والمصادقة على خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية والمعاهدات والاتفاقيات المتعلقة بالدفاع والتحالف والصلح والسلم والحدود والتشاور فيما يرى رئيس الجمهورية عرضه من قضايا عند الاجتماع المشترك، وهذا يعني أن الاتفاقات الهامة موقوف نفاذها على موافقة مجلس الشورى والنواب. ويدرك الإنسان المتتبع للسيرة النبوية بأن التشريعات الوضعية قد كانت مسبوقة بالهدي النبوي الذي استفاد منه المشرعون في مختلف البلدان، وذلك ليس حصراً على نظام دون نظام سواء كان شكل النظام جمهورياً أو ملكياً، فنحن نجد أن مجالس الشورى والنواب والبرلمانات موجودة في الدولة الحديثة في شكلها وقالبها الحديث سواءً كان شكل النظام جمهورياً أو ملكياً في البلدان العربية والإسلامية، فتجد تلك المجالس موجودة في المملكة العربية السعودية وفي دولة الإمارات وفي المملكة الأردنية الهاشمية وفي جمهورية مصر العربية وفي مختلف بلدان العالم وإن اختلفت مسميات هذه المجالس فإن مؤداها واحد، ومن هذا يتضح أنه لا يوجد في الأنظمة المعاصرة دولة تترك لرأس الدولة العنان يتصرف دونما ضوابط أو شروط ودونما مشاركة في الرأي، إذ يستحيل إدارة الدولة بكل سلطاتها التنفيذية والقضائية والتشريعية من شخص واحد أو دونما مشاركة في الرأي من قبل آخرين، وبهذا ندرك أن مبدأ المشاركة والشورى الذي جاءت به الشريعة الإسلامية هو مبدأ أصيل تأخذ به جل دول العالم بنسب متفاوتة، وأن المسلمين كانوا سباقين إليها، وفي ذلك يقول الشيخ محمد الغزالي: لقد تعلم المسلمون من دينهم أن طغيان الفرد في أمة ما جريمة غليظة وأن الحاكم لا يستمد بقاءه المشروع ولا يستحق ذرة من التأييد إلا إذا كان معبراً عن روح الجماعة ومستقيماً مع أهدافها، ومن ثم فالأمة وحدها هي مصدر السلطات، والنزول عند إرادتها فريضة والخروج على رأيها تمرد، ونصوص الدين وتجارب الحياة تتضافر كلها على توكيد ذلك.
أما الأستاذ العالم الفاضل الشهيد عبدالقادر عودة فإنه يقول: أما النظام الإسلامي فيقوم على الشورى والتعاون والتجرد في مرحلة الاستشارة وعلى السمع والطاعة والثقة في مرحلة التنفيذ.

.الشورى في غزوة الحديبية:

لقد كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حريصاً على مشاورة أصحابه حرباً وسلماً، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما لما نزل قول الله {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أما إن الله ورسوله لغنيان عنها ولكن جعلها الله رحمة لأمتي فمن شاور منهم لم يعدم رشداً ومن ترك المشورة منهم لم يعدم عناءً» فقد كانت ديدن الرسول ومبدؤه، والقاعدة التي يسير عليها فيما لم يكن فيه وحيٌ من عند الله فقد خرج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يريد العمرة في شهر ذي القعدة من السنة السادسة من الهجرة وقد استعمل غيلة بن عبدالله الليثي على المدينة وخرج بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب وساق معه الهدي وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه وليعلم الناس أنه إنما خرج زائراً لهذا البيت ومعظماً له وفي السيرة النبوية لابن هشام أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج عام الحديبية يريد زيارة البيت لا يريد قتال وساق معه الهدي سبعين بدنة، وكان الناس سبعمائة رجل فكانت كل بدنة عن عشرة نفر، وكان جابر بن عبدالله فيما بلغنا يقول كنا أصحاب الحديبية أربعة عشر مائة حتى إذا كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي فقال: يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك قد خرجوا معهم العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور وقد نزلوا بذي طوى يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبداً، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموها إلى كراع الغميم.
وجاء في صحيح البخاري أنه خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم عام الحديبية في بضع عشر مائة من أصحابه فلما أتى ذي الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم منها بعمرة وبعث عيناً له من خزاعة وسار النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا كان بغدير الأشطاط أتاه عينه وقال: إن قريشاً جمعوا لك جموعاً، وقد جمعوا لك الأحابيش وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت ومانعوك. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أشيروا أيها الناس علي أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت فإن يأتونا كان الله عز وجل قد قطع عيناً من المشركين وإلا تركناهم محروبين». قال أبو بكر: يا رسول الله، خرجت عامداً لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه. قال: «امضوا على اسم الله».
وقد أورد أصحاب السير وكتب الحديث قصة مسير عثمان رضي الله عنه إلى مكة بعد أن أشار على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك عمر رضي الله عنه عند اعتذاره بالذهاب إلى مكة وحدوث إشاعة مقتل عثمان رضي الله عنه وحصول بيعة الرضوان والصلح الذي تم في الحديبية وما كتب فيه، ونقل الإمام ابن القيم في زاد المعاد أنه لما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا. قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قالها ثلاث مرات. فلما لم يقم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس. فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بُدَنَكَ وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك فنحر بُدْنَه ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً.
ويستفاد مما روت كتب الحديث والسيرة النبوية في هذه القصة:
1- أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد استشار أصحابه، وأنه أخذ برأي أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأنه صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن بعث عثمان رضي الله عنه إلى مكة وحصلت بيعة الرضوان مال إلى الصلح.
2- وأن عثمان رضي الله عنه ذهب إلى مكة بناءً على مشورة عمر رضي الله عنه حيث كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد أن يبتعثه إلى قريش فاعتذر فعذره النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ بمشورته في بعثه لعثمان.
3- يستفاد من اعتذار عمر رضي الله عنه في الذهاب إلى مكة عدم رفضه لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما أبدى وجهة نظر مشفوعة بأدلة مقنعة هو جواز إبداء الرأي في مثل هذه الحال بحرية تامة، وأنه لا ضرر من الاختلاف في وجهات النظر، وأنه لا عيب في أخذ ولي الأمر برأي من خالفه إذا كان في ذلك مصلحة بل هو مشروع غير مذموم.
4- استشارة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأم سلمة وأخذه برأيها، ويستفاد من هذا أن المرأة إذا كانت ذات رأي حسن فإنه يأخذ برأيها، فقد أخذ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بمشورة أم سلمة رضي الله عنها لصواب رأيها في أمر عام.
5- أن أمر الهدنة والمصالحة التي تمت لم يكن اجتهادياً وإنما هي تطبيق لأمر جاء من عند الله، فقد حاور عمر رضي الله عنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بشأن الصلح وكان معارضاً، ولكن الأمر لما كان متعلقاً بالوحي وليس أمراً اجتهادياً فقد مضى الرسول فيه وهو يقول: يا ابن الخطاب إني رسول الله وهو ناصري ولست أعصيه. وفي رواية مسلم فانطلق عمر ولم يصبر متغيظاً فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر ألسنا على الحق وهم على باطل. قال: بلى. قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار. قال: بلى. قال: فعلام نعطى الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم. فقال: يا ابن الخطاب إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبداً. قال: فنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالفتح فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه. فقال: يا رسول الله أو فتح هو. قال: نعم. فطابت نفسه ورجع.
وقد خصص الإمام ابن القيم في زاد المعاد فصل في بعض ما في قصة الحديبية من الفوائد الفقهية نلخص منها ونختار الأمور التالية:
أ- أن أمير الجيش ينبغي له أن يبعث العيون أمامه نحو العدو.
ب- أن الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزة عند الحاجة لأن العين الذي أرسله النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخزاعي كان كافراً إذ ذاك وفيه من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو وأخذه أخبارهم.
ج- استحباب مشورة الإمام رعيته وجيشه استخراجاً لوجه الرأي واستطابة لنفوسهم وأمناً لعتبهم وتعرفاً لمصلحة يختص بعلمها بعضهم دون بعض وامتثالاً لأمر الرب في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} وقد مدح سبحانه وتعالى عباده بقوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}.
د- جواز ابتداء الإمام بطلب صلح العدو إذا رأى مصلحة للمسلمين فيه ولا يتوقف ذلك على أن يكون ابتداءً الطلب منهم.
هـ- أن مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضيم على المسلمين جائزة للمصلحة الراجحة ودفع ما هو شر منه، ففيه دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناها.
و أن الأصل مشاركة أمته له في الأحكام، إلا ما خصه الدليل ولذلك قالت أم سلمة: اخرج ولا تكلم أحداً حتى تنحر هديك وتحلق رأسك، وعلمت أن الناس سيتابعونه، فإن قيل كيف فعلوا ذلك اقتداءً بفعله ولم يتمثلوه حين أمرهم به قيل هذا هو السبب الذي لأجله ظن من ظن أنهم أخروا الامتثال طمعاً في النسخ فلما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك علموا حينئذ أنه حكم مستقر غير منسوخ، وقد تقدم فساد هذا الظن، ولكن لما تغيظ عليهم وخرج ولم يكلمهم وأراهم أنه بادر إلى امتثال ما أُمر به وأنه لم يؤخر كتأخيرهم وأن اتباعهم له وطاعتهم له يوجب اقتدائهم به بادروا حينئذ إلى الاقتداء به وامتثال أمره.
ز- جواز صلح الكفار على رد من جاء منهم إلى المسلمين وأن لا يرد من ذهب من المسلمين إليهم من غير النساء، وأما النساء فلا يجوز اشتراط ردهن إلى الكفار وهذا موضع النسخ خاصة في هذا العقد بنص القرآن ولا سبيل إلى دعوى النسخ من غيره بغير موجب.
ح- أن رد من جاء من الكفار إلى الإمام لا يتناول من خرج منهم مسلماً إلى غير بلد الإمام وأنه إذا جاء إلى بلد الإمام لا يجب عليه رده بدون الطلب فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرد أبا بصير حين جاءه ولا أكرهه على الرجوع ولكن لما جاءوا في طلبه مكنهم من أخذه ولم يكرهه على الرجوع.
ط- أن المعاهدين إذا تسلموه وتمكنوا منه فقتل أحداً منهم لم يُضَمّنه بدية ولا قود ولم يضمنه الإمام بل يكون حكمه في ذلك حكم قتله لهم في ديارهم حيث لا حكم للإمام عليهم فإن أبا بصير قتل أحد الرجلين المعاهدين بذي الحليفة وهي من حكم المدينة ولكن كانوا قد تسلموه وفصل عن يد الإمام وحكمه.
ي- أن المعاهدين إذا عاهدوا الإمام فخرجت منهم طائفة فحاربتهم وغنمت أموالهم ولم يتحيزوا إلى الإمام لم يجب على الإمام دفعهم عنهم ومنعهم منهم سواءً دخلوا في عقد الإمام وعهده ودينه أو لم يدخلوا، والعهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين المشركين لم يكن عهداً بين أبي بصير وأصحابه وبينهم وعلى هذا فإذا كان بين بعض ملوك المسلمين، وبعض أهل الذمة من النصارى وغيرهم عهد جاز لملك آخر من ملوك المسلمين أن يغزوهم ويغنم أموالهم إذا لم يكن بينه وبينهم عهد كما أفتى به شيخ الإسلام في نصارى ملطية وسبيهم مستدلاً بقصة أبي بصير مع المشركين.